منذ العام 2010م و أنا أذهب إلى مقر إذاعة طيبة FM103 بالعاصمة السودانية الخرطوم و التي كانت على بعد دقائق معدودة من المنزل ، بيد أنَّ الرحلة إليها كانت تتناوبها المشاعر و تتعاقبها الفصول و الثابت الوحيد هو هذا الشغف المتجذر بالإعلام و عوالمه كل عوالمه دون استثناء .
و مع مضي السنوات كان يلحظ المرء وثبات عملاقة حين يستذكر خطواته الأول ؛ وثبات عمادها النقد الذاتي المستمر ، و هنا بعض من نصائح يفيد منها من ألقى السمع و أنصت بعقله قبل أذنه و الجوارح.
فمن منطلق أنه ليس عقلانيًّا بأي حال أن تنوي السفر دون زاد و تضع الخطط دون مَعاد و تخوض معركة بلا عتاد كانت العناية الفائقة في أحايين كثيرة تكتنف التجهيزات ما قبل التحليق في فضاءات الأثير .. فما هي أكثر ثلاثة عناصر كنت أوليها اهتمامًا على مستوى المحتوى في فئة برامج الأطفال *" برنامج براعم النور"* ؟!
أولها :- *جاذبية المقدمة ..حيوية و تجدد و استبقاء* :
هل تذكر كم مرة كنت تمسك الريموت و ابتدأ برنامج ما و لم تمر سوى ثوان معدودة إلا و كنت قد غيرت إلى القناة التالية ؟!
و كم مرة مللت من الاستماع إلى مواضيع تهمك و تعشقها تماما لأن المتحدث ممل و رتيب و كئيب؟!
و على النقيض كم هي المرات التي استمعت فيها بشغف مستغرب لمواضيع ليست ضمن دائرة اهتمامك فقط لأن المتحدث ساحر السرد جذاب ؟!
تكمن الخدعة في أنَّ لا وعيك قام بتكوين انطباع سريع عن المتحدث و أزَّك لاتخاذ القرار ؛ لذا كنت أحرص على التالي:-
*الحيوية*:- الأطفال بطبيعتهم حركيون و بالنشاط مفعمون و بالطاقة ممتلئون ؛ و من هذا و غيره اكتسى إضفاء الروح الصافية و الحياة الضافية الدفاقة على المقدمة في نصها الذي يقال ، و في تناسق التوقيت عقيب تلاشي شارة البداية بل و قبل اكتمال التلاشي بقليل لتتمازج موسيقى الشارة مع موسيقى صوت المذيع الذي ينهال ، و في ذبذبات و ترددات صوت الكلام المنثال .
*التجدد* :- كتب أحد الشعراء السودانيين يصف حال بعض الإعلاميين:
" و المذيع لو حتقعدوا أو تقوموا..
بقينا ياخ حافظين هدوموا (ه) "
فإن كان هذا يستعاب على المظهر الصوري فمن باب أولى أن يعاب على المحتوى و الموضوع لأولئك الذين لا زالوا على نمط المقدمات التقليدية المهترئة أو حتى الحديثة التي تَخْلَقُ لفرط ما مَلَّتها الأسماع !
كان الحل بالنسبة إلي البحث الدائم عن مقدمات جديدة فريدة ، و التنويع بين الخيارات التي لدي و توليد توليفات مغايرة فيما بينها بالإضافة لنوسبة المقدمة مع موضوع الحلقة سواء كان قيمًا أخلاقية أو مناسبات دينية و وطنية أو غيرها في قالب لا يعرف الخلو من المتعة و التسلية.
*الاستبقاء* :-
و هو ما يسميه أهل التسويق بِولاء العميل ؛ و لا ولاء يتكون دون استقطاب و لا استقطاب يكون دون صحة المقدمات و شحنها بطاقة الجذب اللازمة لتدور في فلك الفحوى و مدار المحتوى- محتواك أعني - فلا تألُوَّنَّ جهداً و لا تدخرنَّ سعياً فيها.
ثانيها :- *الشعرية و العنصر الأدبي*:-
إن احتدام الصراع بين مدرستي البساطة و التعقيد كانت تتسرب حيثياته إلى داخل الاستوديو في كثير من الأحيان ، و كنت أميَل إلى ضرورة أن تتعدى الحلقات حدود غرس القيم التربوية بالتسلية و المتعة إلى تهيئة المناخ العقلي و البراعم التذوقية إلى ما هو أبعد قليلا ؛ فلحلقة دون نص شعري بتراء شنعاء تستصرخ بلاغة أهل صنعاء!
ثالثها:- *تحويل المفاهيم و القيم إلى سلوكيات و عمل برسالة متناسبة لا تُمل* :-
يستهين الكثير من الآباء و الأمهات بقدرة الأطفال على الالتقاط و الفهم فيصطدمون لاحقاً بثمار لا يعلمون أنهم بسلوكياتهم كانوا لها البذور! فكان للتربية بالقدوة محورية الأثر و مركزيته!
بالمقابل فإن التوجيه المجرد الذي يخلو من تعليل عقلي و ربط وجداني يُفقده تماسك عناصره الذاتية فضلاً عن تحويله لسلوك يُمارس عبر مصنع رسائل الطفولة الذي يستمد معايير الصياغة من قلوب و عقول الأطفال و لا أحد سواهم !
غريبة هي برامج الأطفال!كم تبدو سهلة من الخارج و مفصلية من الداخل ؛ كيف لا و هي مَعلَمٌ أصيل من معالم تشكيل هوية جيل المستقبل في بنائه القيمي و سواءه النفسي؟!
أخيراً.. من يبحر في عوالم الإعلام الإذاعي و التعليق الصوتي يدرك أنها عاتية أمواجها دقيقة مجاهيلها و يستمتع بالغوص و يلفى اللآلئ من لا يَكُفُّ عن الفضول!
*و للغوص بقية..!*
*الإعلامي د.مزمل محمد فقيري*