الدورة الاقتصادية للبودكاست

يشهد سوق البودكاست طفرةً إنتاجية كبيرة، يمكن ملاحظتها بوضوح شديد في السوق الأمريكية التي تقود السوق العالمية عادةً، حيث تلحقها الأسواق الأخرى تباعًا بحسب قربها الثقافي والجغرافي، وقد وصلت هذه الطفرة إلى منطقتنا العربية في هذا العام خصوصًا بعدما اهتمّت العديد من كبرى الجهات الإعلامية بمجال البودكاست ووضعت قدمها في هذا المجال الذي كان يملأه الهواة فقط والهاربين من زحمة اليوتوب.

معلومات حول مستمعي البودكاست

يتميّز مستمعو البودكاست بأنّ معدّل دخلهم أعلى من المتوسّط العام، وكذلك مستوى تعليمهم أعلى من المتوسّط العام للمجتمع، ولدينا فجوة بين الجنسين لصالح الذكور، بالرغم من ذلك فإنّ نصف أوقات الاستماع للبودكاست هي أثناء وجود المستمعين في المنزل، هذا يجعل الكفّة متعادلة مع الاستماع أثناء السير على الطرقات، ممّا يؤكّد على أنّ الاستماع للبودكاست ليس وسيلة لتمضية الوقت أثناء الازدحام المروري فحسب.

المعلومة التي لم تشكّل مفاجأة بالطبع هي أنّ الغالبية العظمى من المستمعين للبودكاست يستمعون إليه عن طريق هواتفهم الذكية، أمّا البقية فيستمعون عبر الحواسيب وأجهزة المساعدة الذكية وغيرها.

اقتصاد البودكاست

لابدّ في بداية الحديث عن البودكاست المرور على شركة آبل التي ابتكرت البودكاست، بل إنّ تسمية "بودكاست" بالأصل جاءت من أحد أجهزتها الرائجة وهو "آي بود"، حيث أطلقت أول تطبيق بودكاست في عام 2012، وبقيت هذه الصناعة لا تدرّ ربحًا لشركة آبل، ربّما كان الجميع غافلًا عن الكنوز المخبّأة فيها، لكن بنفس الوقت ازداد الإنفاق الإعلاني في كلّ عام حتى وصل إلى 220 مليون دولار في عام 2017، لكن كانت هذه الأموال لا تمرّ عبر شركة آبل، إنّما بين المعلنين والمنتجين.

وكغيره من ابتكارات آبل فإنّ حصّتها في السوق تنخفض مع دخول العملاق الآخر جوجل إلى المنافسة، حيث انخفضت حصة آبل من 80 إلى 63% بمجرّد إطلاق جوجل لتطبيقها الخاص بالبودكاست في 2018، في هذه الأثناء أيضًا غيّرت سبوتيفاي استراتيجيتها حيث انتقل تركيزها من الموسيقا إلى البودكاست فاستحوذت بفضل شعبيتها السابقة على 10% من سوق البودكاست، لكن ما زال الطريق أمامها طويلًا جدًا لتحقّق هدفها المعلن وهو أن تصبح الوجهة الأولى لجميع أنواع المحتوى الصوتي.

بدخول سبوتيفاي إلى سوق البودكاست بدأت تظهر أرباح هذا القطاع، لأنّها تقدّم اشتراكًا مدفوعًا، وليست مجانية كخدمة جوجل أو آبل.

أثارت هذه الأرباح وضخامة السوق شهية المنتجين والمستضيفين الكبار للصوتيات، وعلى الرغم من وجود عملاقة التكنولوجيا هنا، إلا أنّ العديد من الشركات وجدت لها موطئ قدم ولو بنسبٍ ضئيلة، وقد ساعد على ذلك أنّ معظم المستمعين لا يحملون ولاءً للتطبيق الذي يسمعون البودكاست من خلاله، خصوصًا وأنّ كلّ من آبل وجوجل لم تقدّما ميزاتٍ لافتة في تطبيقيهما، فيُقال إنّه لو عاد ستيف جوبز فإنّه في الغالب لن يتعرّف على جهاز آيفون الحديث لكنه بلا شكّ سيتعرّف على تطبيق البودكاست، لأنّه لم يتغيّر كثيرًا عن أول نسخة أطلقت عندما كان حيًا.

استفادت الشركات الصاعدة في هذا المجال من سهولة استضافة وتوزيع محتوى البودكاست، فأنشأت تطبيقات بودكاست ووضعت فيها ميزات جديدة، فجذبت عددًا من المستخدمين الذين لا يحملون ولاءً مطلقًا لتطبيقات البودكاست، لأنّ نفس المحتوى يُوزّع على كلّ المنصّات والتطبيقات بفضل ميزة RSS.

هنا لا بدّ من الإشارة إلى أمر مهمّ دخل حيّز المنافسة بين مقدّمي خدمة البودكاست وهو تحسين تجربة الاستماع، حيث تعتمد كلّ شركة على البيانات المتوفّرة لديها حول المستخدمين لتوفير ترشيحات أفضل في ظلّ وجود ملايين الحلقات المسجّلة التي تبعد مقدار ضغطة زر عن المستخدم، وهذا ما أفردنا له مقالًا خاصًا بعنوان كيف ساعدت تقنيات الذكاء الصناعي في صناعة البودكاست.

لذا فإنّ الشركات الصاعدة التي لا يمكنها منافسة العمالقة في مجال البيانات لجأت لأسلوب أكثر ذكاءً للانتشار وهو مشاركة الأرباح مع منشئي المحتوى، ففي حين أنّ آبل مثلًا لا تفرض رسومًا على الاستماع أو تحميل مقاطع الصوت فإنّ شركات مثل castBox  و Stitcher تغري منشئي المحتوى بتحقيق الدخل عبر نشر محتوىً حصريًا مدفوعًا، يمكن الاطلاع على المزيد حول موضوع الربح من البودكاست من خلال مقالنا المعنون طرق الربح من البودكاست، وكذلك يمكن التوسّع حول كيفية توزيع المحتوى الحصري من خلال مقال كيف تساهم تقنيات البلوكتشين في عقود بيع وزتوزيع المحتوى الفريد عبر الإنترنت؟

إنّ ما يؤكد أنّ هذه السوق ستجلب المليارات من الأرباح هو خطط الاستحواذ التي تقوم بها الشركات على كلّ ما يخصّ إنتاج البودكاست وأشهرها استحواذ Spotify على Anchor أحد أهم مقدّمي خدمة استضافة البودكاست المجانية في العالم.

لماذا ينتج المنتجون البودكاست؟

يمكننا تقسيم المنتجين إلى خمس فئات رئيسة، هي:

1.     المؤسسات الإعلامية التي تمتلك أقسام بودكاست داخلية، وتتراوح أهدافها بين تطوير الخدمات إلى تنويع الإيرادات، مثل نيويورك تايمز وشبكة الجزيرة، حيث أنتجت الأولى أحد أشهر برامج البودكاست في العالم وهو The Daily، وأنتجت الثانية العديد من البرامج كان أكثرها نجاحًا برنامج "بعد أمس".

2.     شركات إنتاج البودكاست، مثل ووندري Wondery، و ستارت آب StartUp التي استحوذت عليها سبوتيفاي، وفي المنطقة العربية توجد شركة فنيال ميديا التي أنتجت الكثير من المسلسات وغيرها.

3.     البرامج الحوارية، وهذه إمّا يقدّمها الشخص المشهور نفسه وقد يستضيف أحيانًا شخصيات أخرى، مثل بودكاست سايوير sciwarepod الذي يقدّمه الدكتور محمد قاسم، أو يقدّمها عدّة أشخاص معًا بطريقة حوارية كبرامج التلفزيون الصباحية، مثل بودكاست "مش بالشبشب" الذي يقدمه وسام ولونا.

4.     الشركات غير المرتبطة بوسائل الإعلام والمنظّمات غير الربحية، وتهدف لبناء علامة تجارية أو زيادة الوعي بعلامتها، وليس إلى الربح المباشر مثل Mailchimp ، وفي المنطقة العربية لدينا kerningcultures الذي تقدّمه "هبة فيشر" مع أصدقائها من دبي.

5.     الهواة غير المحترفين، وهم الذين ينشرون دون انتظام، أو ينشرون سلسلة ثمّ يتوقّفون، وهم المكافئ الصوتي لصناع المحتوى على يوتوب، حيث تقدّم لهم منصة Anchor مكانًا مناسبًا مجانيًا لإطلاق مواهبهم.

مصادر تمويل البودكاست

أفردنا لهذا الأمر مقالًا مفصّلًا بعنوان كيف تربح من إنتاج البودكاست، بينما سنمرّ بعجالة على مصادر التمويل هنا، وهي:

1.     الإعلانات

2.     الرعاية

3.     التبرّع

4.     المحتوى المدفوع

5.     المحتوى المخصص لعلامة تجارية محددة

6.     إنتاج محتوى مخصّص للوكالات

قد يصل مجموع عوائد الإعلانات في نهاية 2021 إلى ملياري دولار حيث إنّه يتضاعف كل سنة تقريبًا، فقد كان حوالي 70 مليون دولار في 2015، لكن مع ذلك تبقى هذه الحصة هي الحصة الأقل في عالم الإعلانات، فمازالت تتقدّم السينما وإعلانات الطرق والمجلات والجرائد والراديو والتلفزيون والإنترنت على البودكاست بفارق هائل، وهذا ما يعطي أملًا كبيرًا بأن تزداد حصة البودكاست من كعكة الإعلانات لأنّ أي قضمة تقضمها هذه الصناعة تُقدّر بالمليارات.

البودكاست إلى أين؟

لو أردنا مقارنة البودكاست بالإنسان، فإنّه الآن في مرحلة الطفولة وتحديدًا في مرحلة ما قبل المدرسة، وما زال الوقت المتاح أمامه للتطوّر، فحتى الآن لم تسمح آبل ولا جوجل بالربح من البودكاست عن طريق الإعلانات التي تشكّل المحرّك الرئيس لاقتصاد الإنترنت إلى جانب الاشتراكات المدفوعة، ولم يظهر حتى الآن المكافئ الصوتي لنتفلكس (رغم أنّه موجود بالفعل، لكن حصّته السوقية ضئيلة جدًا جدًا)، كما إنّ تقنيات جديدة كالبلوكتشين والذكاء الاصطناعي تعدنا بالكثير عبر التحالف بينها وبين منتجي البودكاست.

 

راغب.ب 29 سبتمبر 2021