أبقراط، أو كما يعرفه الأطباء على اختلاف مشاربهم بأبي الطب اعتبره الأطباء مؤسسا لمهنتهم بما تميزت به مبادئه في ممارسة الطب والتي يمكن تلخيصها في أمرين متصلين وهما شمولية مذهب الأخلاط وأهمية المريض كانت نظرة العالم للمرض منذ عصر أبقراط، نظرةً يشوبها الكثير من الأخطاء تمزج بين الدين والمداواة، وتشيع فيها فكرة الطبيب الكاهنفالمرض - على عهدهم - ما هو إلا مَسٌ من قوى سحرية، أو غضب إلهي انصب على مريض تجاوز في حق معبوده! ولا يخرج علاجه عن الصلاة، أو تحديد ماهيَّةِ تلك التجاوزات في حق المعبود والكف عنها ! بزغت شمس الإسلام، وتغير معها مفهوم الداء والدواء ليقدم مفهوما متقدما على تعاليم الديانات الأخرى فالمرض في المفهوم الإسلامي شكلٌ من أشكال الجهل بالمخلوقات يقتضي تحقيق البُرء منه أن ندرس خلق الله والحقيقة العلمية في هذا الخلق ومن نظر الدنيا بحكمة باصرٍ درى أن بقاء شواهد العصور القديمة معجزة فنطرب لقصائد هوميروس الملحميَّة، ونستمتع بأعمال أفلاطون وأرسطو، وتأسرنا مجلدات جالينوس العشرين في العصور الوسطى تميزت الثقافة الإسلامية بتنوع رائع في لغاتها، فلم يبق من بعض المخطوطات الإغريقية حينها إلا الصيَغ المنقولة إلى لغات المناطق التي شملتها الفتوحات الإسلامية، لا سيَّما العربية والفارسية والسريانية وكثيرا ما يُنظر إلى الممارسة الطبية الإسلامية حينها باعتبارها قناةً لحفظ النصوص الإغريقية ونقلها بالأساس، نصوصٌ تُرجمت إلى لغات الشرق الأوسط، ثم أعيد ترجمتها إلى اللاتينية، وأخيرا إلى اللغات الأوروبِّيَّة الحديثة إلا أن الطب الإسلامي في العصور الوسطى كان أكثر من مجرد مرحلة فاصلة فقد انطوى أيضا على ثقافة طبية مطلعة نشطة لم تكتف بإعادة صياغة الأفكار الطبية الإغريقية بما يتناسب مع سياقها المحلي، بل أسهمت أيضا بملاحظات وأدوية وممارسات طبية جديدة ولما جاء الإسلام ، كان للعرب في الجاهلية مثل هذا الطب فحث على التداوي فقال تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد: الهَرَم وعرف عن رسول الله التداوي بالعسل والتمر والأعشاب الطبيعية وغيرها مما عرف ب الطب النبوي غير أن المسلمين لم يقفوا عند حدود الطب النبوي، بل أدركوا باكراً أن العلوم الدنيوية - ومنها الطب - يجب تعهدها بدوام البحث والنظر للوقوف على ما بجعبة الأمم الأخرى وإثرائه فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بأخذها وتحت تلك المظلة، أخذ أطباء المسلمين في التَّعَرُّفِ على الطب اليوناني من خلال البلاد الإسلامية المفتوحة وبدأ خلفاء المسلمين في استقدام الأطباء الروم، الذين أخذ عنهم الأطباء المسلمون، ونشطوا في ترجمة جُلِّ مؤلفاتهم الطبية، ولعلَّ هذا يُعْتَبَرُ من أعظم أحداث العصر الأموي وقد تميز علماء الطب المسلمون بأنهم أوَّل مَنْ عَرَفَ التخصص فكان منهم:الجراحون، وأطباء العيون ويسمون (الكحالين)، والفاصدون (الحجامون)، ومنهم المختصون بأمراض النساء، وهكذا وقد كان من عمالقة هذا العصر المبهرين أبو بكر الرازي والذي يُعد من أعظم علماء الطب في التاريخ قاطبة، وله من الإنجازات ما نعجز عن حصرها وما كادت عجلة الأيام تدور في العصر العباسي حتى برع المسلمون في كل فرع من فروع الطب،فلم يَقِفُوا عند حد النقل والترجمة فقط، بل أسهموا بالبحث وتصويب أخطاء نظريات السابقين فقد تطورت (الكُحالة) عند المسلمين، وهي طب العيون ولم يُطاولهم فيه أحد فلا السابقون من اليونان ، ولا المعاصرون اللاتينيون ، ولا حتى اللاحقون بقرون بلغوا فيه شَأْنَهم فلمؤلفاتهم الحجة الأُولَى في الكحالة لقرون طالت اعتبر الدارسون فيها الكحالة طبا عربياً فما أنجبت القرون الوسطى برمتها كحالا كعلي بن عيسى الكحال،صاحب كتاب (تذكرة الكحالين) في طب العيون أبو القاسم الزهراوي (ت 403 ه) ( صورته تظهر في اليديو وبعدها نبدأ تعريفه ) وإذا أفرد كاتب التاريخ للرازي وابن عيسى الكحال صفحة، فللزهراوي في كتاب التاريخ صفحات تشرفت بسيرة عملاق آخر عُدَّ من أعظم الجراحين في التاريخ فقد اخترع أولى أدوات الجراحة كالمشرط والمقص وخيوط الجراحة، وتمكن من إيقاف النزف بالتخثير، ووضع أسساً وقوانينَ جراحيةً كربط الأوعية لمنع نزفها ولم تنضب إسهامات الزهراوي حتى عُدَّ الواضع الأول لعلم المناظير الجراحية فاخترع المحاقن والمبازل الجراحية،وقام بتفتيت حصوات المثانة بما يشبه المنظار في وقتنا الحاضر، وكان أول من اخترع واستخدم منظار المهبل ألف الزهراوي كتابه المعروف باسم (التصريف لمن عجز عن التأليف)، الذي ظل عمدة في الجراحة حتى القرن السادس عشر (أي لما يربو على خمسة قرون من زمانه)،ترجمه تحت نفس الاسم إلى اللاتينية العالم الإيطالي جيراردو ، ليصير بذلك موسوعة طبية متكاملة لمؤسسي علم الجراحة بأوروبا، وذلك باعترافهم بأنفسهم ولقد حل الجزء الذي تكلم فيه الزهراوي عن الجراحة محل كتابات القدماء، فاشتمل على صور توضيحية لأكثر من مائتي آلة جراحية ! كانت أساساً بالغ الأثر اعتمد عليه جراحو أوربا في القرن السادس عشر حتى قال هالر عالم الفسيولويا الكبير : إن جميع جراحي أوروبا الذين ظهروا بعد القرن الرابع عشر قد نهلوا واستقوا من هذا المبحث وقد لمع نجم علماء المسلمين في سماء علم الطب، فكان ابن سينا من ألمع نجوم القرن الرابع الهجري فابن سينا هو أول من وصف الالتهاب السِّحائي، وأول من فرق بين الشلل الناجم عن سبب داخلي في الدماغ، والشلل الناتج عن سبب خارجي، ووصف السكتة الدماغية الناتجة عن كثرة الدم، مخالفا بذلك ما استقر عليه أساطير الطب اليوناني القديم، فضلاً عن أنه أول من فرق بين المغص المِعوي والمغص الكُلوي) وتناول في آرائه الطبية أنواعا من السرطانات كسرطان الكبد، والثدي، وأورام العقد الليمفاوية، وغيرها ويُعد ابن سينا أولَ من أرسى (علم الطفيليات) الذي يحتل مرتبة عالية في الطب الحديث فاكتشف لأول مرة طفيل ( الإنكلستوما)، وسماها الدودة المستديرة،ليكون له السبق بنحو تسعة ِقرون على العالم الإيطالي (دوبيني) كما كشف ابن سينا - لأوَّل مَرَّة أيضًا - طرق العدوى لبعض الأمراض المعدية كالجدري والحصبة، وذكر أنها تنتقل عن طريق بعض الكائنات الحية الدقيقة في الماء والجو، وقال: إن الماء يحتوي على حيوانات صغيرة جدا لا تُرى بالعين المجردة، وهي التي تسبب بعض الأمراض ليؤكد ذلك العلماء المتأخرون بعد اختراع المجهر في القرن الثامن عشر وكان ابن سينا جراحًا بارعا فقد قام بعمليات جراحية دقيقة ،كاستئصال الأورام السرطانية في مراحلها الأولى، وشق الحنجرة والقصبة الهوائية، واستئصال الخراج من الغشاء البَلّوري بالرئة، وعلاج البواسير بطريقة الربط تعرض ابن سينا لحصوات الكلى وذكر حالات استعمال القسطرة، ووصف - بدقة - حالات النواسير البولية، وتوصل إلى طريقة مبتكرة لعلاج الناسور الشرجي لا تزال تُسْتَخْدَم حتى الآن! ولم تكن تلك النماذج حالات استثنائيةً للعبقرية الإسلامية في مجال الطب، فقد حفل سجل الحضارة الإسلامية وأمجادها بالمئات من علماءٍ، كان لهم عظيم الفضل فيما وصل إليهالطبالحديث