إنّه لأمرٌ بالغ الخطورةِ أن تتجرّع كلّ هذا الكمّ الهائل من الحرّيّة دفعة واحدة, أن يُقال لكَ وبدون سابق إنذار، سجّانكَ فرّ، فرّ هارباً، بعد سحقِ الملايينِ بشتّى وأقسى أنواع أصناف العذاب، وبأقصى ما يُمكن من نرجسيّة وساديّة وانعزال عن واقع الإنسانيّة ككلّ، أنت حرّ!! ليسَ بالأمر الهيّن على الإطلاق، لا، ليس سهلاً، أن تعنّفك سلاسلُ وقيودُ المستبدّ عقوداً من الزّمن، أن تُربّى منذ نشأتكَ الأولى بين أحضان جلّاد لم يسمع بمفردة الرّحمة! مرّ أسبوعٌ على رحيل الطّاغية، كان أسبوعاً يعجُّ بالأوجاع الّتي تركتها آثار الأغلال، وبغلِّ حمقى لا يفقهون ولا يعونَ من الحقيقةِ بمقدار قطرةِ ماءٍ من محيطٍ شاسع، أنا الّذي اعتدتُ تدوينَ بضعِ مقالاتٍ في اليوم، أُصبتُ بالعجزِ عن التّفكير والنّطق في ذاك الأسبوع! عمّ تحدّثُ النّاس؟! أيّ شكوى تبثّها لهم؟! وأيّ نجوى تناجي بها أحدهم؟! لعلّ جلّ جمهور الفلاسفة لم يتفوّهوا عن عبث بأنّ شدّة الوعي جحيم لصاحبه! ولكن!! كيف سأبدأ بإخبارِ العالم بأسره عن اثنين وثلاثين سنة، حُشيتَ في مدفعٍ، غصباً لا كيفاً، لإطلاقها تحيّة لخلود القائد؟؟!! إنّ جعبتي تفيض بآلام أغرقت جلّ الآمال، وجعبتي تلك رميتها في نهرٍ، قصدتُ برميها حفظ روحٍ توّاقةٍ لحريّاتٍ مع مسؤوليّات، بقصد حفظ الإنسان في داخلي، رميتُ إنسانيّتي في النّهر الّذي أُلقت أمُّ موسى ابنها فيه، مُسلِّمةً أمرها لبارئه، مُسلِّماً أمري لبارئي، لأنّ فرعون كان قد أقسم بطغيانه ألّا يدع إنساناً بذواتنا، إلّا وسيسلخه، وسيحشو مكان إنسانيّتنا ببديلٍ هو عبوديّته