منذ العام 2010م و أنا أذهب إلى مقر إذاعة طيبة FM103 بالعاصمة السودانية الخرطوم و التي كانت على بعد دقائق معدودة من المنزل ، بيد أنَّ الرحلة إليها كانت تتناوبها المشاعر و تتعاقبها الفصول و الثابت الوحيد هو هذا الشغف المتجذر بالإعلام و عوالمه كل عوالمه دون استثناء .
و مع مضي السنوات كان يلحظ المرء وثبات عملاقة حين يستذكر خطواته الأول ؛ وثبات عمادها النقد الذاتي المستمر ، و هنا بعض من نصائح يفيد منها من ألقى السمع و أنصت بعقله قبل أذنه و الجوارح.
أولها:- الإلمام المعرفي و التحضير الجيد
لن تحوز الاهتمام و لن تناله طالما أنك لا تقدمه لنفسك قبل الآخرين! ؛ و ليس ثمة اهتمام بنفسك يفوق تثقيفها و زيادة حصيلتها المعرفية و اطلاعها العلمي المسنود بزخم التجارب و الانفتاح نحو الحياة ، و كذلك فإن فاقد الشيء لا يمكن أن يمنحه و الذي يعيش في ظلمات الجهل لا يُتوقع و لا ينبغي أن يَتوقع أن يكون رسول استنارة!
و لمَّا كان الإلمام المعرفي هو الدينمو السلوكي الذي يستنطق انسيابية الكلام و سلاسة الاسترسال كان لا غنى للمذيع عن التسلح بالعلم و المعرفة ، لا مجرد اطلاع عابر بل تقعيد و تأصيل و تبيان .
و أمَّا التحضير الجيد فيقيك الحرج و يطير بك لأعلى ما في الجهوزية من درج و يجوز بك ما في الفكرة و السرد من منعرج فالحرص الحرص إن رمت الفرج.
ثانيها :- تصوير الواقع و بداعة المخيال
تتجلى صعوبة الإذاعة و عظمتها في أن المذيع بصوته يجسد صوراً و أنغاماً و أحاسيس و بقدر ما كان مرآة دقيقة لصدى طبائع الأشياء كلما كان أنفذ لقلوب مستمعيه أسرع توغلاً فيها و تنادت الآذان صوب الموج الذي يسمعون فيه هديره و يستقصدون غديره فيا حظ المنبع و المصب!
و لأن تصوير الواقع عبر كاميرا الصوت عملية جراحية معقدة استلزمت مباضع الأداء التعبيري من التنغيم و النبر و الوقفات -نفصلها في المقالات التالية- و أجهزة الرصد لنبضات الواقع و ترجمتها إلى لغة الصوت و هذا إنما يتأتَّى بتعقيم الأذن و اختيار طوارقها من معزوفات النص الفصيح المعبِّر عن فكر صحيح .
و أمَّا بداعة المخيال فهي مما يصنع هويتك و يشكل فرادة اسمك و يُعَمِّق وجودك و يُعظِّم أثرك في جميع من سمعك و يسمعك و لو بعد مائة عام! ؛ بداعة أعنيها في كل التفاصيل: بداعة الصوت كخامة و الواقع كصورة مقامة و الخيال الأعلى من البركل و الألب و تهامة ، بداعة الأداء و قبل كل شيء بداعة الفكرة!•
ثالثها:- النقد الذاتي و التطوير المستمر و التغذية الراجعة
تعلمنا من نوافذ جو-هاري أنَّ ثمة نافذة يطل من خلالها الإنسان على نفسه ما لا يستطيع غيره استبصاره فيه ؛ لذا تنتخب فكرة نقد الإنسان نفسه نفسها كمرشِّحة للأخطاء في الأداء الإذاعي و نواقص استتمام روعته و العمل على وضع الملاحظات حيز التعديل و التنفيذ.
صدق الله لما قال:"بل الإنسان على نفسه بصيره * و لو ألقى معاذيره " ! .
و لأن لجمهور الإذاعة آذاناً موسيقيةً تتشمم من بعيد رائحة النشاز ثبت أنه لا غنى عن الأخذ بملاحظاتهم و استقراء انطباعاتهم ؛ كيف لا و هم الجمهور الأذكى عبر كل وسائط الإعلام قديمها و الحديث؟!.
أخيراً.. من يبحر في عوالم الإعلام الإذاعي و التعليق الصوتي يدرك أنها عاتية أمواجها دقيقة مجاهيلها و يستمتع بالغوص و يلفى اللآلئ من لا يَكُفُّ عن الفضول!
و للغوص بقية..!
الإعلامي د.مزمل محمد فقيري